أشكركم على إتاحة الفرصة لي لعرض مسيرتي في الحياة حتى يومنا هذا.
لقد ولدت مبصرة في مستشفى ريد رووفز للولادة في مدينة ديوندبين، في نيوزلندا. كنت الثالثة بين أخوتي والوحيدة التي لم تلتقط لها صورة في أستوديو التصوير! ولذلك كنت دوما محط تفكه وتندر العائلة- لقد انتهت كل الحداثة والتطور من العالم عندما جاء دوري! كان والدي سباكا، أما أمي فقد كانت ربة بيت من الطراز الأول، فقد اعتنت بنا وكذلك والدي. لا أذكر أن أبي قد عنفنا قط، ولا أذكر يوما لم تكن فيه أمي موجودة لرعايتنا. لقد كنا عائلة سعيدة.
انتقلنا في العام 1974 إلى بيت بناه والداي، ومعه انتقلت إلى مدرسة جديدة اسمها بالاكلافا، فيها سلم به 192 درجة صعودا وهبوطا، وذلك ما اضطررنا لفعله كل يوم! ثم ارتدتُ مدرسة كينمور الإعدادية التي أحببتها، حيث كنا نتعلم الطبخ والخياطة والمشغولات المعدنية والخشبية والعديد من الأمور الإبداعية التي أحببتها كثيرا. ثم التحقت بمدرسة كيكوريا فالي الثانوية، وتخرجت منها في العام 1983 ومعي جائزة تفوق في اللغة اليابانية. لقد أحببت المدرسة الثانوية أيضا، فقد كان هناك الكثير جدا من الأشخاص، والكثير لأفعله. أقنعنا أنا وأمي الأساتذة أن أتخصص في الاقتصاد المنزلي، وأن أدرس اليابانية. وكان ذلك عكس التيار السائد الذي كان يرى الفرنسية واللاتينية موادا أساسية للطلاب الأكثر تفوقا. ولم أكن أعلم بأنني واحدة من هؤلاء! ولكننا أنا وأمي انتصرنا وهكذا قضيت سنتين من دراستي الثانوية في الاستمتاع بالاقتصاد المنزلي وواصلت دراستي للغة اليابانية خمس سنوات أخرى بعد تخرجي من الثانوية.
عندما أعود بذاكرتي إلى الماضي، أتذكر عدم قدرتي على قراءة السطر الأخير من المعادلة الرياضية المكتوبة على اللوح خلال السنة الأخيرة لدراستي الثانوية. لم أفكر حينها كثيرا في الموضوع، وأرسلتني أمي إلى أخصائي النظارات، ولكني عدت بدون نظارة وبموعد في قسم العيون بمستشفى ديوندن العام.
أسفرت زيارتي إلى المستشفى عن اكتشاف مرض في عيني لا يمكن علاجه بالنظارات. فقد تم تشخيص مرضي حينها بضمور شبكي في العين يصيب صغار السن، واتضح فيما بعد أنه تشخيص غير صحيح، ولكنه عنى أن قدرتي على الرؤية المركزية بدأت تغشاها "الضبابية" وبدا أن الحياة في تلك اللحظة ستصبح "غير واضحة".
أخذتني أمي إلى طبيب متخصص في العيون أكد بدوره التشخيص السابق، وعندما سألته أمي: "ما هي خدمات الدعم المتاحة لها؟" أجابها: " ولماذا تحتاجين خدمات الدعم؟"
بدأت دراستي الجامعية في العام 1984 بالجلوس في الصف الخلفي في قاعة المحاضرة وانتهيت في نهاية العام بالجلوس في الصف الأمامي. تدهورت قدرتي على الإبصار إلى درجة أن لوح الكتابة كان غير واضح واعتمدت في كتابة ملاحظاتي على الاستماع للمحاضر بدلا من قراءة ما يعرضه في جهاز العرض الضوئي أو ما يكتبه على اللوح. اضطررت للدراسة سنة إضافية بسبب رسوبي في بعض المواد في تلك السنة الأولى، ولكنني تخرجت من تخصص الاقتصاد في جامعة مدينة ديوندين في شهر ديسمبر 1987.
انتقلت للعيش في مدينة ولينغتون في عام 1988 مع خطيبي مارك. كنا قد درسنا معا وتعرفنا على بعضنا عبر صديق مشترك. حصل مارك على وظيفة في جمعية الادخار المتبادل الاسترالية فرع التأمين في إدارة التدقيق المالي، بينما تجولت أنا في الشوارع بحثا عن وظيفة، حتى وجدتها وبدأت العمل سريعا جدا في وزارة التعليم في قسم دفع رواتب الخدمات التعليمية. وكان الفريق مسؤولا عن تطوير خدمة الرواتب للقطاع التعليمي في نيوزلندة وكنت أنا مسؤولة عن مجال التدريب والتطوير، وعملت على كتابة دليل نظام لتدريب مستخدمي النظام وإدخال الرموز ونظم الشفرات بصورة صحيحة. لقد أحببت هذه الوظيفة لأنها سمحت لي بالتجول في كل البلاد.
تركنا مدينة ولينغتون في العام 1991، وذهبنا إلى بريطانيا لقضاء سنة في إجازة عمل. لكنها كانت عطلة أكثر منها للعمل وكنا محظوظون كفاية للبقاء مع عم مارك وزوجته في منطقة غرب ميدلاندز في مدينة تسمى كيدرمينستر. سافرنا إلى فرنسا وأسبانيا وسكوتلندا وايرلندا وويلز في سيارتنا من نوع فورد ايسكورت واستمتعنا بتعلم الكثير عن الثقافة الحياتية البريطانية. لقد استمتعنا كثيرا لدرجة أننا عدنا إلى الوطن غير مدركين لحقيقة أننا كنا على وشك استقبال طفلنا الأول.
تزوجنا في شهر إبريل ورزقنا بولدنا الأول زاكري في شهر أغسطس من عام 1993. ثم رزقنا بسبستيان بعد ذلك بسنتين، وكان ذلك أيضا في شهر أغسطس، وأخيرا استقرت بنا الحياة وقتها.
إلى أن جاء ذلك اليوم في نهاية العام 1996، عندما لاحظت أن بلاط أرضية الحمام يتلألأ. ذهبت إلى عيادة الطبيب ومنه إلى المستشفى. وبعد ثلاثة أشهر بتاريخ 27 مارس 1997، ما بدأ وكأنه وميض يتلألأ، أصبح نقطة شمعية ثم ضبابا في عيني اليسرى، وانتقل إلى عيني اليمنى. وبعد أن فقدت ما تبقى لي من إبصاري، أصبحت عمياء رسميا.
لم يكن هناك ما يمكنهم القيام به. تناولت منشطات الستيرويد لمساعدتي على إيقاف الالتهاب ولكن لم يساعدني أي شيء على استرجاع بصري. شعرت بالعجز والقهر ولم تكن لدي أدنى فكرة عن الكيفية التي سأتعايش بها مع العمى. كان زاكري يبلغ من العمر 3 سنوات حينها وسبستيان سنة واحدة ولم تكن لدي أدنى فكرة كيف سأرعاهما واعتني بهما. بدأت بطلب المساعدة من الجمعية الملكية النيوزلندية للمكفوفين. وأتذكر محادثة أجريتها مع مستشارة في الجمعية عندما قالت: "تعلمين أنه يوجد نوعين من المكفوفين يا جولي: نوع يستطيع أن يبصر أكثر ولكنه يعمل أقل، ونوع آخر يستطيع أن يبصر أقل ولكنه يعمل أكثر". لم يكن ذلك الكلام منطقيا بالنسبة لي، فقد ظننت أنه كلما تمكنت من الإبصار أكثر، كلما عملت أكثر. ولكن ما لم أدركه أنها كانت تتحدث عن السلوك وموقف المرء من معاناته. أنا الآن أعلم أن فقدان البصر يتعلق بالسلوك أكثر منه بفقدان البصر، وأنني منذ ذلك الحين قد قابلت بعضا من المكفوفين الرائعين الذين يمكنهم الإتيان بأي عمل!
بدأت بتلقي التعليمات من جمعية المكفوفين، وزارني العديد من المعلمين في منزلي. تعلمت كيف أتحرك بصحبة شخص مبصر، وكيف استخدم الهاتف، وكيف أصب كوبا من الشاي، وكيف امسح بالزبدة على قطعة من الخبز، وبعد ذلك بأربعة أشهر بدأت بالتدرب على يد معلم توجيه وتنقل لأتعلم كيفية استخدام العصا البيضاء. لقد كنت أتعلم أشياء جديدة باستمرار، فقد تعلمت كيف استخدم جهاز الكتاب الناطق، وكيف أتلمس النصوص المطبوعة، وكيف أقلي شريحة لحم، واستمررت أتعلم وأتعلم وأتعلم .....
حتى يوم 15 يونيو 2001، عندما ترك زوجي العائلة وغادرنا. أصبحت حينها أما عازبة عمياء. لدينا في نيوزلندة نظاما للرعاية الاجتماعية الذي يقدم الحد الأدنى للأجور لشخص عاجز عن العمل أو لا يستطيع الحصول على وظيفة، ومنذ ذلك الوقت بدأت أعيش على "إعانة المعوقين".
يوم 30 يونيو 2001 (أي بعد 15 يوما)، التحقت بدورة لتعلم برايل في جمعية المكفوفين. أردت القيام بشيء ايجابي في الوقت الذي كنت أمر فيه بكل تلك الأمور السلبية التي تحدث في حياتي. وقعت في حب الكتابة بطريقة برايل وكل ما جلبته هذه الطريقة معها إلى حياتي. لقد اجتمع شملي فجأة مع الكلمة المكتوبة. لم أتمكن من قراءة المطبوعات بسهولة لمدة 13 سنة، وبعدها أصبت بالعمى تماما. لقد جننت ببرايل، ورحت أحول كل شيء أمامي إلى برايل! صواني الخبز، ومجلدات تخزين حساباتي المنزلية، أقراصي المضغوطة، وحتى أقلام أحمر الشفاه!
وفي العام التالي حصلت على شهادة إتقان الكتابة بطريقة برايل، ومع نهاية العام 2002 تقدمت بطلب للعمل في الجمعية الملكية النيوزلندية للمكفوفين كمستشارة نشر الوعي ببرايل، وحصلت على الوظيفة!!!!
بدأت العمل في هذه الوظيفة الحكومية في شهر فبراير 2003 حتى شهر نوفمبر 2007. وكان علي زيادة الوعي ببرايل وتطبيقاته في الحياة. قمت بذلك عن طريق إنتاج مواد للقراءة خاصة بقراء برايل الجدد، وبعمل حفلات شاي لبرايل، وعمل بسكويت برايل!
تركت العمل بجمعية المكفوفين لأصبح مدربة حياة ومتحدثة محترفة. حصلت على تدريبي في مؤسسة نتائج نظم التدريب وبدأت بتدريب زبائني في المنزل. أما كيف نجحت في أن أصبح متحدثة كان عندما أجبت بـ: "لم لا؟" على السؤال: "هل توافقين على إلقاء خطبة أمام بعض الجهات المانحة في جمعية المكفوفين؟". بدأت بسرد قصتي ذلك اليوم ولم أتوقف منذ ذلك الحين. أنا أسافر الآن حول نيوزلندة لأخبر الجميع كيف بدأت رحلتي من غرفة الانتظار بقسم العيون في مستشفى ديوندن العام وصولا إلى الاحتفال بمرور عشر سنوات على فقداني البصر!
لا يمكنني وصف فرص تغيير الحياة التي تخلقها المؤتمرات. إن ما قدمه العمى لي هو تقريبي أكثر إلى مجموعة من الناس الذين يشبهونني. لقد منحني إحساسا غامرا بالانتماء يكبر أكثر وأكثر خلال حضوري المؤتمرات. لقد طُلب مني حضور ندوة عن القيادة في مؤتمر جمعية المواطنين المكفوفين في أكتوبر 2001. كان زوجي قد تركني لتوه في حينها، وكنت ممتنة لتفرغي بعض الوقت للخروج ومقابلة أشخاص جدد. لم تكن لدي أدنى فكرة أن لقاء أشخاص مكفوفين رائعين سيمنحني تجارب ملهمة. لقد انتهى ذلك المؤتمر وتركني والإلهام يغمرني!
إن خطيبي رون هو حب حياتي، ولقد مر على تعارفنا حتى اليوم خمس سنوات. ما أضافه لي رون هو الإيمان، فهو يؤمن بي بصورة كاملة ومطلقة. دعوني أعطيكم مثالا: في رأس السنة عام 2005، وهو أول عيد لنا معا، كان رون يختفي في أوقات غريبة، ولكنني لم أفكر كثيرا في الموضوع. ثم اكتشفت السبب! في صباح العيد فتحت هديته ووجدت قطعة فنية استخدم رون في صنعها برايل وكتب عليها "رؤية" بنقاط برايل كبيرة وحروف محفورة لكلمة رؤية. كانت القطعة بيضاء بالكامل وقد صنعت بشكل جميل. مررت بأصابعي على القطعة، وتلمست النقاط البارزة. لقد آمن رون بأنه حتى لو لم أتمكن من النظر، إلا أنني ما زلت أملك الرؤية والبصيرة. إلى تلك الدرجة كان إيمان رون بي.
وفي باريس، أقيمت الاحتفالات بالذكرى المائتين لمولد لويس برايل في شهر يناير 2009. لقد أردت الذهاب! ولقد بدا غريبا أن أسافر إلى الجهة الأخرى من العالم فقط لزيارة باريس، ولذلك فقد كان نصيب رون من الرحلة هو السفر إلى الشرق الأوسط: مصر والأردن على وجه التحديد.
لذلك غادرنا أنا ورون نيوزلندة عشية عيد الميلاد عام 2008، على متن الطائرة المتجهة إلى باريس لحضور هذا المؤتمر والاحتفالات المصاحبة لإحياء هذا اليوم العظيم. وفي يوم ذكرى مولده الفعلي وهو الرابع من يناير من عام 2009، حضرنا الاحتفالات التي شملت زيارة مقبرة العظماء (البانثيون) حيث نُقل رفات لويس برايل إلى سرداب البانثيون تكريما له. حضرنا حفلا موسيقيا في المساء في نوتردام للاستماع إلى خمسة عازفين للأرغن حيث أن لويس برايل نفسه كان عازفا بارعا.
بدأ المؤتمر نفسه يوم 5 يناير 2009، في قاعات مؤتمرات منظمة الأمم المتحدة للتعليم والعلم والثقافة (اليونسكو) بحضور أكثر من 400 موفد من 46 دولة من جميع أنحاء العالم، ومن بينهم 10 موفدين جدد من نيوزلندة. وامتلأت الثلاثة أيام بذكر ما أسهم به لويس برايل في عالم المكفوفين بدأ من نظامه للكتابة والقراءة. ناقش الجمع تفاصيل حياته والرموز التي وضعها وحروف برايل والمستقبل الذي ينتظرها.
وتخلل المؤتمر عشاء أقيم في قاعة المدينة في باريس يوم الأربعاء السابع من يناير وحضره رئيس بلدية المدينة. واشتمل الصباح التالي على زيارة إلى مسقط رأس لويس برايل في قرية صغيرة تبعد 40 كيلومترا عن باريس أقلتنا إليها الحافلة.
وكان هذا تنويرا حقيقيا لي حيث تسنى لنا زيارة مطبخ عائلة برايل وتلمس اللوح الذي شحذه والد برايل لابنه حتى يتعلم أشكال الحروف المطبوعة. كما تسنى لنا أيضا زيارة ورشة العمل التي تعرض فيها لويس للحادث الذي أفقده بصره عندما كان في الثالثة من عمره وهو يلعب بأدوات صنع السروج الحادة. وعند مغادرتنا منزل برايل، انحنيت أمام الحديقة الأمامية للمنزل وغرزت علم نيوزلندة الذي يحمل سرخسا فضيا، وذلك حتى يعلم عالم برايل ومحبوه أن طائر كيوي قد زار هذا المكان المتميز.
كان هذا المؤتمر بالفعل احتفالا بحياة لويس برايل، وشعرت بالفخر لحضوري هذه المناسبة. وأهم شيء حصلت عليه من حضور مثل هذه المؤتمرات أن برايل كان مفتاح إزالة كل العقبات أمام إمكانيات وقدرات المكفوفين.
وفي طريقنا للعودة إلى الوطن، كان علينا زيارة مصر. حطت الطائرة في القاهرة واستقبلنا ممثل عن الشركة السياحية وقاد بنا السيارة على طول الطريق السريع، ورافقتنا أصوات أبواق السيارات من حولنا. ولقد ظللت اتسائل لماذا يكثر مرشدنا رمسيس، الشاب المصري اللطيف، من الالتفات جهتنا والحديث إلينا. وقلت في نفسي: "أتمنى لو تبقي عينيك على الطريق!" وظللت أتساءل حتى تحدث الآخر بالعربية. وتبين لي حينها أنه لم يكن هناك رجل واحد فحسب، بل كان رجلين: المرشد والسائق! لقد نسوا إخبار المرأة العمياء بذلك!
قمنا باستكشاف الأهرام والمصنوعات وجمال المدينة القديمة، ونحن في طريقنا إلى الأقصر وأسوان وأبو سمبل. تحسست أصابعي في القاهرة أهرام الجيزة وأنا أصعد أعلى هذه المعالم العظيمة واكتشف أنها في الحقيقة لم تبنى مرة واحدة، بل في الواقع بنيت على شكل مكعبات ليغو عملاقة! زرنا محل عطور واشترى لي رون عطر "زهرة اللوتس"، وغادرنا ذلك المحل بأياد مشبعة بالعطور بعد أن جربنا كل العطور المعروضة. كانت النقوش في كل المعابد رائعة. وكثيرا ما كانوا يعرضون علي امتياز تلمس التماثيل التاريخية لأنني عمياء. ولم يسلم من يد هذه السيدة العمياء مفتاح الحياة الأبدية، والخرطوش الشهير، وأيضا قدمي رمسيس الثاني العلويتين!
تم اتجهنا إلى الأردن حيث زرنا مدينة جرش القديمة قبل التوجه إلى البتراء مدينة الوردة الحمراء. سار بنا مرشدنا البدوي بسلام عبر هذه الحضارة القديمة حيث استمتعنا بلقاء البدو وأيضا بالتجوال حول أحد عجائب هذه الدنيا! عادت البتراء إلى الحياة بالنسبة لي عبر أهلها. لم أتمكن من رؤية عمارتها بنظري الضعيف ولكني رأيت أهلها، ورأيت أرواحهم ونفوسهم الكريمة، وغادرت البتراء وقد تغطيت بالحلي والكريستالات التي زينني بها أهل تلك البلاد.
آخر مغامرة لنا في الأردن كانت في الغطس في البحر الميت ونحن في طريق عودتنا إلى المطار. بالنسبة لي، كانت من أجمل محطات هذه الرحلة. أن أكون عمياء وأتمكن من الطفو كان تجربة لا تنسى. لقد طفونا أنا ورون كفلينتين في تجربة مبهجة للحواس، نضحك بأعلى أصواتنا على النقيض تماما من الألمان الذين كانوا يسبحون برزانة بالقرب منا! كانت تجربة حسية بحتة في مياه دافئة مالحة أبقتنا طافيين.
عدت إلى البيت وأنا امرأة عمياء أخرى! أحببت مصر وهي أحبتني وكما أخبرنا المرشد "مصر تحبكم!" تخيلت كيف كنت قريبة جدا من حرمان نفسي من فرصة رائعة بسبب خوفي وجهلي! ولذلك، عند عودتي، أرسلت رسالة الكترونية إلى مدير عام شركة السفر الإبداعي وهي الشركة النيوزلندية التي نظمت لنا رحلتنا، لأشكرها، ولكن السيدة روبين جالاوي أجابتني بقولها أنها سعدت جدا بأننا أمضينا وقتا رائعا، وأنها كانت تفكر في تنظيم رحلات للمكفوفين وضعاف البصر، وما إذا كنت أنا ورون مهتمين بترؤس هذه المجموعة؟
إذا كنا ماذا؟ أجبتها بكلمتين فقط: لم لا؟
هذه خمس نصائح للرد بجملة: لم لا؟ على أية مغامرة جريئة:
- اسأل نفسك ما هو أسوأ شيء يمكن أن يحدث إذا شاركت في هذه المغامرة؟ إذا كنت مقتنعا بأن أسوأ شيء قد يحدث ليس سيئا جدا في الواقع، فوافق على المشاركة!
- ضع قائمة بالأشياء التي فاتتك في الحياة لأنك رفضتها. ما هي الفرص التي فوتها بسبب موقفك السلبي؟
- احمل معك دفتر مذكراتك، وسجل ملاحظاتك بكل الفرص التي رفضتها. أكتب كل تلك الفرص الضائعة وشعورك الذي أحسست به قبل أن تجيب بالرفض. هل هناك نمط لرفضك؟ هل ترفض دوما لأنك خائف؟
- اسأل نفسك "كيف سأشعر لو قمت بهذا العمل؟" ركز على المكاسب وليس المتاعب وتأمل في الشعور الذي ستحس به بعد الانتهاء من هذا العمل.
- إذا استمررت في إبداء نفس ردة الفعل على نفس السؤال، فإنك ستظل عالقا طوال حياتك. قل لمرة واحدة فقط "لم لا" وأنظر إلى أين ستأخذك هذه الإجابة. ثم أرسل إلي رسالة الالكترونية وأخبرني بكل القصة!
قررت بعد مرور عشر سنوات على فقداني لبصري أن أقيم حفلة أشكر فيها كل من ساعدني خلال العشر سنوات الأولى من إصابتي بالعمى. علقت البالونات على الباب ووزعت المشروبات. كانت ليلة رائعة، وكانت فرصة رائعة بالنسبة لي لأتأمل في ما تعلمته خلال العشر سنوات الأولى من إصابتي بالعمى. كل ما مر بي بدأ من غرفة الانتظار في المستشفى وحتى هذه الحفلة. بدأت بالتفكير وتدوين أفكاري والخبرات والإرشادات التي استعنت بها للقيام بكل ما قمت به.
تحولت مفكرتي إلى فصول ووجدت أني قد كتبت قصة وحددت ثمانية مفاتيح لإحداث تغيير استثنائي. لطالما شعرت بأني إنسانة عادية وجدت نفسها في ظروف استثنائية. الآن قصتي مكتوبة، ولكن لم تكن لدي أدنى فكرة كيف سأتمكن من نشرها.
عندما وجدت نفسي العام الماضي أنتظر في المطار، بحثت عما يُذهب مللي في حقيبتي. ووجدت ضالتي في بطاقات تدريبية صممتها على شكل بطاقات تعليمية باستخدام برايل. وهذه البطاقات التي أحملها معي دوما كانت المناسبة جدا لهذه اللحظات عندما لا يكون لدي شيء آخر لأقوم به سوى الجلوس في مكان واحد والانتظار.
تلمست أصابعي في هذا اليوم من شهر مارس جملة "تصور هدفك" لذلك قررت أن أحول انتباهي إلى طباعة ونشر كتابي القادم: "كيف تنظر إلى الجانب المشرق". لم أكن حينها متأكدة أن بالإمكان تحقيق ذلك، ولم يكن لدي دار نشر أو المال اللازم لذلك، لكن توقعاتي كانت إيجابية أكثر من رصيدي المصرفي.
لذلك وبينما كنت بانتظار موعد إقلاع الطائرة، توجهت بأفكاري نحو أهم جزء في مرحلة نشر الكتاب ألا وهو حفل تدشينه. ما هو أفضل مكان لحفل تدشين الكتاب؟ تفكرت مليا في الإمكانيات المتاحة، وحينها جاءتني الفكرة كضربة برق: غرفة الانتظار في المستشفى. المكان الذي انتظرت فيه قبل 12 سنة ليتم بعدها الإعلان رسميا بأني عمياء. ما أجمله من مكان تنطلق منه القصة. حسنا لقد فعلتها. أستطيع أن أرى ببصيرتي أني واقفة في غرفة الانتظار في مستشفى ديوندين العام.
عدت إلى المنزل من سفري وكونت لجنة من الأصدقاء لمساعدتي على تدشين الكتاب. بعد أن حددنا تاريخ التدشين ومواعيد اللقاءات، وضعنا اتفاق رعاية الكتاب والذي من خلاله يدفع الناس 99 دولار لرعاية صفحة واحدة من الكتاب مقابل إهدائها لشخص يعرفونه. كما تقدم راعيان رئيسيان لرعاية غلاف الكتاب وصفحة وصفات الطعام، وفي غمضة عين توفر لدينا المال للطباعة عبر الدار الخاصة بنا: دار إبداعات الخطوط الفضية.
بعد ذلك بأربعة أشهر وجدت نفسي أقف في ذلك المكان، في غرفة الانتظار في قسم العيون بين أهلي وأصحابي والمعجبين والرعاة. إن الهدف الذي تخيلته أصبح واقعا الآن. انتهت كل الأسئلة المتعلقة بـ"كيفية" الوصول إلى هناك. أنا الآن أقف في المكان الذي كنت أتخيله منذ شهور.
أما بالنسبة لكتابي القادم، فالكل يسألني عن مضمونه. يريدونه كتابا عن الطبخ، ولكنني أفكر في الكتابة عن قصة من منظور أبنائي. قد أسميه "جرعة العمى"، وإليكم القصة:
كنت مستلقية ذات صباح على السرير مع زاك وسيبستيان، وقال زاك: "لقد حلمت البارحة أننا كنا جميعا في السوق مع والدي. وكنتِ أنتِ هناك أيضا يا أمي. اشترينا مجلة أما أنتِ فتناولتِ جرعة العمى. شربتها يا أمي ثم عاد إليكِ بصرك!" قال زاك بحماس.
رد عليه سبيستيان غير مكترث بما قال: "أنت تقصد جرعة إعادة البصر يا زاك. لماذا ترغب أمي في تناول جرعة العمى؟ ذلك سيزيدها عمى! لا بد أنها تناولت جرعة إعادة البصر!"
أحب المشي والطبخ. لقد شاركت في خمسة سباقات نصف ماراثونية منذ أن فقدت بصري. بدأت كل تلك السباقات بقول: "لم لا؟" لصديقتي فلو عندما طلبت مني المشي معها في عطل نهاية الأسبوع.
قررنا أن نضيف معنى وهدف لمشينا الأسبوعي. لقد بدأت صداقتنا أنا وفلو بحضور صفوف ما قبل الولادة، ثم بزيارة المراكز التجارية وحتى المشي في شوارع ديوندن في عطلات آخر الأسبوع، ونحن نمشي ونتحدث في الطرق التي اعتدنا على عبورها. ما جمعنا من قبل هو إنجابنا لابنينا البكر بفارق يومين عن بعضنا، أما ما يجمعنا اليوم فهي الصداقة وحبل قصير يبلغ طوله 15 سم، تمسك فلو بطرفه وأنا أمسك الطرف الآخر.
واصلت تتبع خطوات فلو، في البرك والوحل، وهي ممسكة بالحبل بيدها اليسرى، وأنا امشي خلفها بقليل ممسكة بالطرف الآخر من الحبل بيدي اليمنى، تتسارع خطواتنا على الطريق حتى شعرنا بأننا نمتلك اللياقة الكافية لملأ استمارات التسجيل.
ولكن استمارات التسجيل لن توصلنا إلى خط النهاية، بل التركيز على المكاسب وليس المتاعب هو الذي سيوصلنا بالتأكيد.
توجهنا صباح أحد أيام سبتمبر المعتدلة إلى السباق وانطلقنا 15 دقيقة قبل المجموعة لتجنب المرور على باقي المتسابقين. كانت تلك حيلة ساعدتنا كثيرا في المشي، كما أن تجاوز باقي المشتركين لم يكن بالأمر السهل. لقد شكل انطلاقنا قبلهم فرقا كبيرا، ولكننا لن نبقى في المقدمة طويلا. بعد مضي نصف ساعة من المشي، تجاوزنا أول متسابق وبعدها بدأ الجميع بتجاوزنا وحتى العداءون الذين بدئوا أصلا متأخرين عن السباق. ولكن ذلك لم يهمنا حيث أن هدفنا تركز على الوصول إلى النهاية، أما المنافسة والفوز، فقد تركناهما للآخرين. اجتزنا خط النهاية وسجلنا وقتا جيدا، وقد امتلأت بالقروح أقدامنا وأصاب الجفاف أجسادنا.
وفي اليوم التالي استمر ظهور آثار العمل القاسي على أجسادنا من أثر السباق، ولكن أقسى ما تركه ذلك السباق كان على صديقتي فلو لأنها اكتشفت أنها أصبحت عمياء! حسنا، كان ذلك وفقا لصحيفة اوتاجو التي خلطت بين أسماءنا، ولذلك حين فتحت فلو الجريدة، اكتشفت أنها قد أصبحت امرأة عمياء. ولحسن حظها وبعد مكالمة ودية تم تصحيح الخطأ في صحيفة اليوم التالي وعاد بصرها إليها.
أحب الطبخ أيضا، ولقد اشتهرت وصفتي لطبق الكيك، ويمكنكم تحميل نسخة مجانية عبر هذا الرابط: www.thatblindwoman.co.nz
أكبر انجازاتي هي تربيتي لأبنائي كأم عازبة عمياء، والمشاركة في خمس سباقات نصف ماراثونية، والسفر إلى باريس لحضور الاحتفالات بالذكرى المائتين لمولد لويس برايل، وتأليف كتابي، وإلقاء كلمة للسيدات اللاتي تأثرن بحرائق أحراش ملبورن باستراليا في وقت سابق من هذا العام.
أما طموحاتي فهي:
- أن أكون أفضل متحدثة على مستوى نيوزلندة كلها!
- إنشاء مدينة "جوليوود" على غرار مدينة هوليوود وبوليوود، بل أفضل منهما! وهي مدينة ملاهي مظلمة تهدف لرفع الوعي بأن العمى قد يكون ممتعا!
أما بالنسبة لتقنيات المكفوفين فأنا استخدم: برايل، والبرمجيات الناطقة على جهاز الكمبيوتر (JAWS )، والعصا البيضاء، والهاتف النقال الناطق. ولا استعين بالكلاب حتى الآن، ما زال يتعين علي تدريب ولدين اثنين!
لقد أتاحت لي التكنولوجيا فرصة الوصول إلى المعلومات. كما أنها منحتني صوتا. لم أكن لأتمكن من الحديث إليكم الآن لولا هذه المهارات التي تعلمتها باستخدام كل هذه التقنيات المتاحة لدي.
وأقول لجميع النساء الكفيفات: أنتن جميلات. اعتقدت عندما فقدت بصري أنني سأفقد جاذبيتي. ولكن سرعان ما أدركت أن الجاذبية تكمن في الثقة بالنفس. ما زال الناس يندهشون عندما ألقي خطاباتي لأنني ألبس ملابس متناسقة الألوان وأضع مساحيق التجميل. أحب أن استمتع بأنوثتي، وكوني عمياء لا يعني أن أتوقف عن الاهتمام بملابس وشكلي! لم يقل لي أحد أبدا أني جميلة إلا بعدما فقدت بصري!
أخيرا، أود أن أسرد هذه القصة:
لن أنسى أبدا الشعور بالعجز وقلة الحيلة اللذان غمراني عندما جلست في غرفة الانتظار في ذلك اليوم من شهر مارس من عام 1997، في اليوم الذي أصبحت فيه عمياء رسميا. لم يكن لدي أدنى فكرة عما كان ينتظرني في المستقبل أو كيف سأتعايش مع وضعي. لم أتوقع أبدا في ذلك اليوم الأسود أنني سأعيش الحياة التي أعيشها اليوم، وأن أكون متحدثة ملهمة ومدربة وأن أؤلف كتابا. ذلك الكتاب الذي سجل رحلتي من غرفة الانتظار في مستشفى ديوندن العام وحتى الاحتفال بمرور 10 سنوات على فقدي لبصري، لقد كان طريقة لشكر كل من ساعدني خلال تلك العشر سنوات.
وضعت في الكتاب ثمانية نصائح لتبني تغييرات جذرية وفورية، وسأشارككم بواحدة منها:
لم يكن قد مضى وقت طويل على فقدي لبصري، وسألني أحدهم من الجمعية الملكية النيوزلندية للمكفوفين ما إذا كنت أرغب في المشاركة في عطلة آخر الأسبوع في رحلة لزيارة المناطق الرائعة في نيوزلندة وكذلك للتزلج على العشب. سألت نفسي: "السفر حول البلاد للتزلج؟ أنا لا أحب التزلج على العشب أصلا!" أجبتهم: "لا شكرا، لا أرغب في الذهاب" ورفضت الدعوة بأدب وانكفأت إلى عزلتي الآمنة في منزلي.
انتظري جولي. لم أتزلج يوما، فكيف أقول بأني لا أحب التزلج؟ كيف عرفت أنني لا أحب التزلج؟ لم أجربه في حياتي قط، وبهذا الأسلوب لن أجربه أبدا. شعرت بأنني حمقاء: لقد سمحت لمخاوفي وجهلي بحرماني من فرصة قد لا تتكرر مرة أخرى. ومنذ تلك اللحظة وحتى اليوم، قررت أن انتهز أية فرصة تتاح لي، وإذا ما وجه إلي سؤال: "هل ترغبين في الذهاب؟" فإن جوابي التلقائي هو: "لم لا؟". سأجرب الأمر مرة ثم أقرر ما إذا أردت القيام به مرة أخرى أم لا. على الأقل بهذه الطريقة ستساعدني التجربة التي سأحصل عليها في اتخاذ القرار. لقد كانت عملية فعالة لاتخاذ القرار، ولم تخذلني في معظم الأوقات. وهذه القرارات التي ستأخذني إلى أماكن ومواقف لم أذهب إليها أو أمر بها من قبل. تجدون هنا قائمة بمجموعة من الأسئلة التي وجهت إلي منذ أن فقدت بصري، ولكن الأهم أنني أجبت دوما بـ "لم لا؟" وكنت مستعدة لتجربة الأشياء على الأقل مرة واحدة:
- هل ترغبين في المشي في عطلة نهاية الأسبوع؟
- هل تقبلين إجراء مقابلة في هذه المجلة؟
- هل تودين تعلم الحروف المطبوعة البارزة؟
- هل ترغبين في تناول العشاء مع بعض الأصدقاء المكفوفين مساء يوم السبت؟
- هل تكونين اشبينتي؟
- هل ترغبين في مقابلة بيل بريسون (كاتب ومؤلف أمريكي)؟
- هل ترغبين يا جولي في التحدث كضيفة في حفلنا لجمع التبرعات؟
- هل ترغبين في عرض الأزياء في قاعة البلدة؟
- هل ترغبين في تعلم برايل؟
- هل ترغبين في المشاركة في سباق ديوندين نصف الماراثوني؟
- هل تودين تعلم كيفية استخدام جهاز الكمبيوتر؟
- هل تودين التسجيل في دورة الكتابة الإبداعية معنا يا جولي؟
- هل توافقين على التحدث في مؤتمرنا الوطني؟
- هل فكرت في تأليف كتاب يا جولي؟
- إذا زرتِ مدينة ولينغتون، هل توافقين على إعداد طبق الكيك اللذيذ مرة أخرى في برنامج صباح الخير؟
- هل تقبلين الإشراف على حفل زفافي؟
- هل ترغبين في قيادة الدراجة مزدوجة على طول خط سكة الحديد في عطلة نهاية الأسبوع؟
- هل ترغبين في زيارة الشرق الأوسط؟
وقد أجبت عليها كلها بـ "لم لا". حدث كل ذلك لأنني غيرت طريقة تفكيري وقبلت بتجريب الشيء مرة واحدة! كل ما استلزمه الأمر: تغيير كلمة "لا" إلى "لم لا؟". كانت هناك العديد من الأسباب التي تحول بيني وبين المشاركة في سباقات المشي في طرق مزدحمة، أو ركوب الدراجة المزدوجة والقيادة على طريق سكة حديد غير مستوية. وماذا عن الإحراج الذي سيلحق بي لو تعثرت ووقعت على درجات قاعة مدينة ديوندن عندما وافقت على عرض الأزياء؟
قالت هيلين كيلر ذات مرة: " الحياة إما أن تكون مغامرة جريئة .. أو لا شيء". عندما يسألك أحد في المرات القادمة المشاركة في مغامرة جريئة غير إجابتك من لا إلى: "لم لا؟"
للتواصل مع السيدة وودز:
البريد الالكتروني: julie@thatblindwoman.co.nz
الموقع الالكتروني: http://www.thatblindwoman.co.nz /
مواقع تنصح وودز بزيارتها: