أنت هنا

فيصل عبد الله الحمزة الغامدي

ولد فيصل عام 1974، في قرية الشُعبة بالمنطقة الجنوبية من المملكة السعودية، وهي إحدى قرى مدينة بلجرشي القريبة لمدينة الباحة. ولطالما أحب فيصل حياة القرى وبساطة أهلها كبارهم وصغارهم، ويروي فيصل عن بساطتهم قائلا:

"تحدثني والدتي حفظها الله بأنه بعد ولادتي بفترة تقارب السنة، توفي الملك فيصل رحمه الله، وانتشر الخبر ولقلة وسائل الإعلام وضعفها في تلك المنطقة، توافد الكثير من أقاربنا القريب والبعيد منهم عن منزلنا للعزاء فيني معتقدين بأن فيصل الذي مات هو أنا وليس الملك فيصل رحمه الله، وتفاجئوا فرحين بسلامتي، مما خفف عليهم وطأة وفاة الملك فيصل رحمه الله."

لفيصل ثلاثة إخوان هم سنده في الحياة، وأختين يحبهما كثيرا. لم يعاني فيصل من إعاقة بصرية، بل ضعف بسيط في الإبصار، لم يعره هو ولا من حوله اهتماما وظنوا بأنه ضعف تركيز منه. ظن فيصل أن كل الناس يرون مثله وأن ما يراه هو أقصى ما يمكن للمرء أن يبصره. وعندما أيقن أن مشكلته هي عدم التركيز، بدأ بتنمية وتقوية جانب التركيز عنده تلقائيا دون دراية لصغر سنه.

انتقلت العائلة لمدينة الطائف لظروف عمل والده، ودرس فيها حتى الصف الثاني ثانوي. كان يذهب للمدرسة مشيا على قدميه، ولم يكن يحب المدرسة كثيرا، وكثيرا ما أحس بضيق في صدره، وكثيرا ما انتابته نوبات سعال شديدة حتى يخرج الدم من فمه. وذات يوم انتابته نوبة السعال ورأته والدته والدم يخرج من فمه فأخذته إلى المستشفى فورا. أجريت له فحوص شاملة، إلا أن الطبيب أعلن عجزه عن تشخيص حالته، وحولوه إلى مستشفى الهدا وهناك أظهرت الأشعة وجود زيادة خلقية ليمونية الشكل تغطي طرف القلب وغير ملتصقة به تكبر مع الجسم وكأنها عضو من أعضاءه الطبيعية، وتحد من دقات القلب وسرعته. قرر الأطباء ضرورة سفره للخارج لعجزهم عن تشخيص حالته. أرسلوا التقارير إلى أشهر جراح قلب في العالم آنذاك، وصادف أنه يقوم بجولة طبية في الشرق الأوسط، والسعودية كانت محطته الأولى. قرر الطبيب إجراء العملية لفيصل. قطع والده بعثته في السويد وعاد بسبب مرض ابنه، وكانت تلك إحدى تضحيات والديه التي لا ينساها فيصل. يصف فيصل ذلك اليوم قائلا:

"دخلت غرفة العمليات، وكان منظرا لا أنساه حتى اليوم: سرير أخضر ومقصات مصفوفة بجانب السرير وكشافات، رائحة التعقيم والبنج في غرفة العمليات كأني أشمها الآن، لبسهم وكماماتهم تثير الخوف. أستمرت العملية ثمانية ساعات ونصف ساعة متواصلة. شق الطبيب ظهري في الجهة المقابلة للقلب من الخلف ليستأصل الزيادة الليمونية وأغلق الجرح بثمان وثلاثين غرزة."

أمضى فيصل شهرين في المستشفى ثم شفي تماما من مشكلة القلب، ولكن اكتشف الأطباء إصابته بـ "التهاب الشبكية الصبغي". أستمرت حياته طبيعية ولكن بدأ بصره بالضعف تدريجيا، حتى استعان بالنظارة. بدأت معاناته مع القراءة في المرحلة المتوسطة، ولكنه واصل حتى الثانوية وأختار القسم العلمي لأنه يحب الفهم ولا يميل للحفظ. وجد نفسه مسئولا عن أسرته في ظل ظروف عمل والده، وسفر إخوانه اللذان يكبرانه أحدهما إلى المنطقة الشرقية، والآخر إلى امريكا. زرع والداه فيه الاعتماد على النفس ومواجهة مشاكل الحياة وأسندوا إليه المسئوليات الكبيرة في سن صغيرة رغم ضعف بصره. كل تلك الأمور صقلت شخصيته وأضفت عليها الجدية، وتركت أثرا إيجابيا في حياته أستفاد منها كثيرا فيما بعد عندما فقد بصره.

مرت عليه أوقات أضطر فيها للتوقف عن قيادة السيارة بعد المغرب، إلا أنه كان يكابر ويجازف بالخروج عندما يطلب منه ذلك وخصوصا عند طلب والدته. ثم انتقلت العائلة إلى مدينة جدة، حيث العديد من المعاهد والكليات ولوجود الجامعة هناك. أكمل الصف الثالث ثانوي في مدينة جدة بمدرسة دار العلوم الأهلية، ليواجه صعوبة اختيار جامعة مناسبة لإفتقار المجتمع والأنظمة التعليمية لما يناسب حالته في ذلك الوقت فهو ليس بمبصر ولا بكفيف. كان يرغب في إكمال تعليمه، فقرر اختيار أقصر الطرق المتاحة، والتحق بمعهد الإدارة العامة بجدة، تخصص دراسات مالية. عانى أيام الدراسة من ضعف البصر فكان لا يرى اللوح ولكنه واصل حتى تخرج وحصل على "دبلوم عالي في الدراسات المالية" بتوفيق من ربه، ودعاء ورضا والديه، وجهده واصراره على تحقيق هدفه.

بعد التخرج، التحق بشركة الدهلوي للاجهزة الكهربائية، وعمل فيها كمراقب مالي. واجه صعوبة كبيرة في القراءة، واستخدم مكبرات مجهرية صغيرة. لم يكن الدخل مناسبا لمساعدته على الزواج وتأسيس أسرة، فبحث عن بديل حتى التحق بشركة مجموعة عبد اللطيف جميل وكيل شركة تويوتا. وجد العمل هناك كوكيل شرعي مناسبا حيث تعين عليه الذهاب إلى محكمة الحقوق المدنية ورفع شكاوى على الذين يتأخرون في سداد أقساط السيارات. ثم أرهقه العمل لفترتين صباحية ومسائية، فبحث عن البديل رغم أنه كان مرشحا لادارة فرع من فروع الشركة في ذلك الوقت التي كانت تشهد توجه الشركة للسعودة. وجد وظيفة منسق تدريب في وزارة الدفاع والطيران، واستطاع في وقت قصير أن يحقق النجاح فيها لحبه لهذا المجال، واستمر في العمل بها قرابة اثنتي عشر سنة كمنسق تدريب ثم ترقى لاخصائي موارد بشرية، حتى اليوم.

لم يظن أنه سيعجز في يوم من الأيام عن الرؤية أو قيادة السيارة أو السير بمفرده، رغم أن نظره كان في تناقص مستمر لكنه ظن أنه سوف يثبت خصوصا بعد خضوعه لعملية في المستشفى العائم "السفينة الروسية فلوكس" بدولة الامارات العربية المتحدة. تزوج فيصل يوم 13/3/1420 من معلمة إعاقة سمعية. بدأ بصره يضعف سريعا، وكان يغامر بقيادة السيارة بتوجيه من زوجته وهو يتبع ارشاداتها إلى أن وصل سائقه الخاص بعد زواجه بشهر. وبعد ذلك مرت عليه فترة صعبة قاسية يتألم فيصل عند تذكرها، تجاوزها بفضل من الله، ثم بمساعدة زوجته، حيث انتقل في هذه الفترة إلى حياة الإعاقة ومرحلة جديدة وغريبة لا يعرف عنها أي شيء، وقفت زوجته خلالها إلى جانبه، حتى مرت الأيام، ورزقا بابنهما الوليد في عام 1421، فرح كثيرا بسلامة زوجته ووليدهما وأذن في أذنه وأقام في الأذن الثانية عملا بسنة نبينا. سألته والدته بعد ثلاثة أسابيع عن مدى رؤيته للمولود، فأجابها بسرعة حتى لا يؤلمها بأنه لا يراه ولا يعرف كيف ملامحه، ولكن دموعها كانت أسرع منه، يقول فيصل:

"بقدر ما كانت فرحتي بالمولود، بقدر ما كان ألمي حينما يصفه الجميع بقولهم أنه يشبه جده أو خاله مثلا، وفي داخلي نار تشتعل شوقاً لرؤيته من جهة وألم في أملي بأن يكفوا عن الكلام والوصف".

بدأت الأمور تأخذ مجراها الطبيعي بالتدرج. وبعد فترة قصيرة من دخول الوليد لحياته، وبدعم مادي ومعنوي من زوجته، أسس مشروع "مركز الوليد للحاسبات" لبيع أجهزة الحاسب الآلي وصيانته شراكة مع أحد الأصدقاء. وقد هدفت زوجته إلى شغله عن التفكير في إعاقته والاستفادة من وقت الفراغ، فجمع بذلك بين عمله الرسمي وإدارة متجره في المساء. إلا آنه آثر بعد مرور ما يقرب من الثلاث سنوات التنازل عنه لصاحبه بعد ظهور بعض المشاكل وفضل ألا يصل لمرحلة يخسر فيها صاحبه لأنه يؤمن بأن الصداقة لا تقدر بثمن.

بدأ مشواره مع التقنية من الصف السادس إبتدائي، فقد كانت هدية نجاحه من الوالد جهاز كمبيوتر "صخر" وكتاب لغة البرمجة "بيسك"، وشجعه والده على استخدامه وعلى تعلم المزيد، ثم اشترى له طابعة، وبعد أن بدأ الدراسة في الكلية اشترى له أخاه الأكبر جهاز كمبيوتر رغم ارتفاع سعره في ذلك الوقت، ويقول فيصل عن تجربته تلك:

"عندما استخدمته لأول مرة، قمت بالخطأ بمسح القرص الصلب! وطبعا خجلت أن أخبر أخي بذلك فطلبت المساعدة من ابن عمي، فأخذه واستبدله بجهاز متطور، ثم أهداني طابعة ملونة فرحت بها فرحا شديدا."

كانت لفيصل طقوسه الخاصة أثناء استخدام جهاز الكمبيوتر، حيث كان يضطر لتكبير الحروف والاقتراب كثيرا من الشاشة لدرجة أنه يحس بحرارتها، وشكل كل ذلك ازعاجا وضيقا كبيرا له مما دفعه لبيع الجهاز بعد تخرجه والابتعاد عنه حفاظا على ما تبقى من نظره مع شدة تعلق قلبه به.

وفي أحد الأيام وبعد ولادة ابنه الثاني محمد، استمع في الإذاعة عن برنامج الكتروني يقرأ النصوص الظاهرة على الشاشة، وبرنامج آخر مشابه يتم تركيبه على الهاتف النقال، فطار فرحا ولكن لم تدم سعادته طويلا فقد أخبره الموظف عند اتصاله بالمركز للاستفسار أن الدورة ستكلفه مع البرنامج خمسة عشر ألف ريال سعودي بدون جهاز الكمبيوتر، تفاجئ فيصل وصرف نظره عن البرنامج تماما. ومضت الأيام حتى أخبره أخو زوجته الذي كان يعمل بجمعية الأطفال المعاقين بالرياض، بوجود جمعية تقدم خدمات للمكفوفين، فأتصل بهم وظهر أنه نفس المركز الذي سمع عنه في الإذاعة، وعلم منهم بأنه تم تحويل المركز إلى جمعية. يقول فيصل عن خبرته مع ذلك المركز:

"دربني هناك أستاذي وصديقي وأخي والإنسان هشام حميدة، ثم سنحت لي فرصة التعرف على الأمير خالد الفيصل آل سعود، وانضم للجمعية عن طريقي ولي الشرف. اهداني سمو الأمير خالد جهاز كمبيوتر محمول وبرنامج ناطق، وبعد فترة جاءت الإنتخابات القروية، واقترحت على مدير الجمعية بأن أقنع المرشحين بدمج توعية المجتمع بحقوق المعاقين ضمن برامجهم الإنتخابية باسم الجمعية. رحب المدير بالفكرة كثيرا، ونجحت في إقناع بعض المرشحين، وفعلا تم تكريم مدير الجمعية بدرع وشهادة ودعم مادي من المرشح كما وانضم هذا المرشح لجمعيتنا. وواصلت العمل، إلا أن منزلي تعرض للسرقة وسرق الجهاز والبرنامج. اتصلت بمدير الجمعية وأخبرته بالأمر، وكانت الصاعقة بقوله يعوضك ربي."

انتهى الأمر عند ذلك الحد رغم رغبة فيصل في اكمال مسيرته للترويج للجمعية إلا أنه افتقد للأدوات اللازمة ولم تعرض عليه الجمعية المساعدة، إلا أن ذلك لم يؤثر على علاقته معهم لأنه كان يهدف لخدمة وتوعية المكفوفين بالتقنيات المتاحة وتدريبهم. ثم سمع فيصل عن نظام جديد لشراء برامج المكفوفين يدعى "شراء البرنامج بالإيجار المنتهي بالتمليك"، بحيث يتضاعف سعر البرنامج ولكن لم يكن هناك خيار آخر أمام فيصل، فقد شعر بفراغ كبير عندما فقد البرنامج الذي أحبه. اشترى فيصل البرنامج الموجود، وهناك اكتشف مشكلة أخرى يتعرض لها الكفيف وهو عدم تعريفه وغيره من المكفوفين بالتقنيات المتاحة، بل كان الأمر تجاريا بحتا يهدف للربح على حساب حاجة الكفيف حيث يجهل معظمهم وجود تقنيات مختلفة ومتنوعة. بدأ فيصل البحث والدراسة والقراءة عن كل التقنيات والاكتشافات والعروض والخدمات المتاحة للكفيف، فعلم بوجود بطاقة الفرسان الخاصة من الخطوط الجوية السعودية التي تمنح ذوي الإعاقة مزايا وخدمات خاصة، وتواصل مع مدير إدارة الاحتياجات الخاصة بالخطوط الجوية السعودية وتم تصميم نموذج ما زال متداولا حتى اليوم. كما تعرف فيصل على جمعية بالقصيم تحقق حلم الكفيف في امتلاك البرنامج الناطق وجهاز كمبيوتر محمول والتدريب عليه، وراسلهم وعرض عليهم خدماته وخبراته في مجال التدريب، ومنحوه جهازا جديدا وبرنامجا متطورا، تدرب عليه بمساعدة زوجته وعن طريق قراءة التعليمات الخاصة بالبرنامج، وفي غضون سنة أصبح فيصل مدربا ومستشارا يقدم خدمة الدعم الفني.

استمر فيصل في البحث عن الجهات التي تخص المكفوفين مثل المدارس والجامعات في مدينة جدة، وزارها وتعرف على تقنيات المكفوفين المتاحة لديهم وطريقة إقتنائها، وعرض عليهم خدماته، وتعاون فيصل مع مكتب ذوي الاحتياجات الخاصة بجامعة الملك عبد العزيز وتم إنشاء قسم للمكفوفين في مكتبة الجامعة. كما قامت شركة الناطق بتعيينه كمدرب معتمد لمنتجاتهم، وهو يعمل أيضا كمدرب معتمد من جمعية العوق البصري الخيرية ببريدة، وهو بصدد الانضمام لجمعية المكفوفين بالرياض. والأهم من ذلك كله هو تقديمه لخدمات الدعم الفني لجميع المكفوفين والمختصين والمدارس والجامعات من مناطق مختلفة من المملكة، إما عن طريق برامج المحادثة، أو رسائل البريد الالكتروني، أو الهاتف.

حاول فيصل البحث عن الدعم المادي من المؤسسات، إلا إن مفهومهم لثقافة خدمة المعاقين انحصر في توفير ثلاث وجبات طعام لهم في اليوم وذلك كل ما يحتاجونه، وهو يرى أن الأمر متشابه في معظم الدول العربية، وأن الخدمات قد تتفاوت من دولة لأخرى، لكن لا يمكن مقارنتها بمثيلاتها في الدول الغربية وتقدمها في هذا المجال. وقد كتب فيصل في الصحف المحلية عن هذه القضية، كما ظهر في بعض القنوات الفضائية لمناقشتها، حيث ظهر توجه جديد في العالم العربي لخدمة المكفوفين وعنده أمل كبير في قيام مشاريع تخدم هذه الفئة وتخفف العبء عن كاهل المؤسسات الحكومية، ويتمنى فيصل من القطاع الخاص المساهمة.

حاول أيضا إنشاء مركز لتدريب المعاقين عبر الإنترنت إلا أنها كانت فكرة مقيدة بأعضاء ومشرفين ومتابعات سترهقه وتعوقه عن تحقيق هدفه في الوصول لدعم فردي أو مؤسسي لإنشاء المركز الذي يحلم به لخدمة المكفوفين وتعريف المجتمع بكل أطيافه وفئاته بفئة المكفوفين ومعاناتهم، حيث أنه يطمح في أن يتم إنشاء مراكز تدريب كمبيوتر لكل المكفوفين في كل مدن العالم العربي، وليس لتدريب المعاقين فقط، بل لتأهيل وتجهيز كوادر تدريبية، والتنسيق مع باقي المؤسسات للتعريف بحقوق المعاق والطرق المثلى للتعامل معهم وتوفير كل التسهيلات لهم وحفظ خصوصياتهم، وتوفير الوظائف المناسبة لهم.

أنشأ فيصل مدونته الخاصة وفضاءه الالكتروني الخاص، وهو يشجع كل كفيف على إنشاء مملكته الخاصة به، فكل كفيف لديه أهداف ورسالة يريد إيصالها والمدونات ستساعده في ذلك.

يهوى فيصل تعلم المزيد عن الكمبيوتر وحل مشاكله. لم يتعلم لغة برايل بعد، ولكنه يحب تقنيات المكفوفين الالكترونية في الكمبيوتر والهواتف النقالة، ويحب العمل التطوعي المنظم غير المرهق وذي الصلة المباشرة بذوي الإعاقة.

أخيرا، يدعو فيصل الله دوما أن يعينه على رد جميل زوجته ومواقفها العظيمة معه، ويختم بقوله:

"أن يكون المرء كفيفا من المهد حتى اللحد، أهون عليه من فقد حبيبتيه، بعد ما كان مبصرا."

للتواصل مع فيصل:

البريد الالكتروني: faisalwfaisal@gmail.com

الموقع الالكتروني: http://faisalit.com

مواقع يوصي فيصل بزيارتها: